كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة، وأكثر أهل الكلام والبدع، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن. ورأوا عجزًا وعيبًا وقبيحًا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه. وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل، لكن أخطأوا في معنى التأويل الذي نفاه الله، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل، وصار الآخرون أكثر كلامًا وجدالًا، ولكن بفرية على الله، وقولٍ عليه ما لا يعلمونه، وإلحاد في أسمائه وآياته، فهذا هذا.
ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل، فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث أو هذا النص مؤول، أو هو محمول على كذا، قال الآخر: هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل. والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل، أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول، وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة، يترك عند المصلحة، أو يصح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربًا أو مترادفًا، وهذا- والله أعلم- هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية. ونحو ذلك، ومراده التفسير.
والمعنى الثاني: في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقًا هو نفس المراد بالكلام. فإن الكلام إن كان طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب. وإن كان خبرًا أن تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون. فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم، والكلام كالتفسير والشرح والأيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أو مستقبلة.
فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها. وهذا الوضع والعرف.
الثالث: هو لغة القرآن التي نزل بها وقد قدمنا التبيين في ذلك. ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6]. وقوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36- 37]. وقول الملأ: {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44] {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45]. وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ الله آمِنِينَ} [يوسف: 99] {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].
فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه، كما قال يوسف: {هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]. والعالم بتأويلها الذي يخبر به. كما قال يوسف: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} أي: في المنام {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}. أي: قبل أن يأتيكما التأويل. وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. قالوا: أحسن عاقبة ومصيرًا. فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن، وكذلك في سورة آل عِمْرَان. وقال تعالى في قصة موسى والعالم: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78]. إلى قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].
فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها. ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار. فهو تأويل عمل، لا تأويل قول، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلًا، مثل حول تحويلًا، وعول تعويلًا. وأول يؤول تعدية آل يؤول أولًا، مثل حال يحول حولًا وقولهم آل يؤول أي: عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه المأل، وهو ما يؤول إليه الشيء. ويشاركه في الاشتقاق الموئل، فإنه وَأَلَ، وهذا من أول، والموئل المرجع، قال تعالى: {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: من الآية 58].
ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل، فإن آل الشخص من يؤول إليه، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل. كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون. بخلاف الأهل. والأول أفعل، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى، كما قالوا جمادى، وفي القصص: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولى وَالْآَخِرَةِ}. ومن الناس من يقول فوعل ويقول أوّله إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل. فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف. سمي المتقدم أول- والله أعلم- لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه، فهو أس لما بعده وقاعدة له. والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من أحمر وحمراء، ولهذا يقولون: جئته أول من أمس وقال: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]. ومثل هذا أول هؤلاء..
فهذا الذي فضل عليهم في الأول، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله، فيعتمد عليه، وهذا السابق؛ كلهم يؤول إليه. فإن من تقدم من فعل، فاستبق به من بعده، كان السابق الذي يؤول الكل إليه. فالأول له وصف السؤدد والاتباع. ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود. والأول مشعر بالابتداء. والمبتدي خلاف العائد، لأنه إنما كان أولًا لما بعده، فإنه يقال: أول المسلمين، وأول يوم، فما فيه من معنى الرجوع والعود، هو للمضاف إليه لا للمضاف. وإذا قلنا: آل فلان فالعود في المضاف، لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلًا ومرجعًا لغيره، لأنه كونه مفضلًا دل عليه أنه مآل ومرجع، لا آيل راجع، إذ لا فضل في كون الشيء راجعًا إلى غيره. آيلًا إليه، وإنما الفضل في كونه هو الذي يُرجع إليه ويُؤال. فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلًا ومرجعًا، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ. والله أعلم.
فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم. فإن التفضيل يجري على غير فعّل كقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلًا، والمصدر واقع موقع الصفة، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل، كعدل وصوم وفطر، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله. فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه، أو تأول هو إليه. والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤُول ويُؤوَّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به، كما قال بعض السلف في قوله: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67]. قال: حقيقة. فإن كان خبرًا فإلى الحقيقة الخبر بها يؤول ويرجع، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع، بل كان كذبًا، وإن كان طلبًا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع، وإلا لم يكن مقصوده موجودًا ولا حاصلًا، ومتى كان الخبر وعدًا أو وعيدًا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول. كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]. قال: إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد.
وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم، فالكلام على هذا من وجهين:
الأول: من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه، ما الدليل على ذلك؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاتهم بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم. ولا قالوا إن الله ينزل كلامًا لا يفهم أحد معناه. وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها. التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعد. مثل: «من غشنا فليس منا». وأحاديث الفضائل. ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلًا، بالعرف المتأخر.
فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل. وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن. وتكلم أحمد على ذلك المتشابه، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية. وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله، فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره. بل يبين ويفسر. فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته.
ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره. فلو قيل: إن هذا هو التأويل المذكور في الآية، وأنه لا يعلمه إلا الله، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلًا يخالف دلالتها، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله. وليس هذا مذهب السلف والأئمة، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها، لا التوقف عنها. وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني. لا تحرف ولا يلحد فيها.
والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه، أن تقول: لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والقدير والرؤوف ونحو ذلك، ووصف نفسه بصفات، مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر، وقوله: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، و: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، و: {فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عِمْرَان: من الآية 76] و: {الْمُقْسِطِينَ}، و: {الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: من الآية 58]، وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، و: {لَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55] {ذَلِكَ بأنهمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله} [محمد: 28] {وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {وَهُوَ الله فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]. إلى أمثال ذلك. فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جمع ما سمى الله ووصف به نفس أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادًا ظاهرًا، وجحد لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح. فإنا نفهم من قوله: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. معنى. ونفهم من قوله: {أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معنى ليس هو الأول. ونفهم من قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. معنى، ونفهم من قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47]، معنى. وصبيان المسلمين، بل وكل عاقل يفهم هذا.
وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة، من يقول: إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علمًا محضًا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط، وكذلك في قوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}. يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم، وهذا الغلو في الظاهر، من جنس غلو القرامطة في الباطن. لكن هذا أيبس وذاك أكفر.
ثم يقال لهذا المعاند: فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود، أو على حق موجود. أم لا؟ فإن قال: لا، كان معطلًا محضًا. وما أعلم مسلمًا يقول هذا. وإن قال: نعم قيل له: فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم، وكلاهما في الدلالة سواء؟ فلابد أن يقول: لأن ثبوت الصفات محال في العقل، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث، بخلاف الذات.
فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره. وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض. فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة، بخلاف الآخر. أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليٌّ عظيم، كدلالته على أنه عليم قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص. وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته.
وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئًا ونفى آخر: لم نفيت، مثلًا، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى أرادته؟
فإن قال: لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله، قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله. فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه. قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه. وكذلك محبته. وإن قال وهو حقيقة قوله: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل. وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين، لأن افعل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة. قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء. وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة. وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة، والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة؟ مع أن النصوص تفرق. فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل.